الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مراتب الإجماع
.المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت.قال الفقيه الأجل الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رحمة الله عليه الحمد لله الذي لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه الذي {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه وخيرته من نوع الإنسان وسلم بعثه إلى جميع الجن والإنس من مبعثه إلى انقضاء هذا العالم وقيام الساعة نسخ بملته الملل ولا ناسخ لملته ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. أما بعد: فإن الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية يرجع إليه ويفزع نحوه ويكفر من خالفه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع وإنا أملنا بعون الله عز وجل أن نجمع المسائل التي صح فيها الإجماع ونفردها من المسائل التي وقع فيها الخلاف بين العلماء فإن الشيء إذا ضم إلى شكله وقرن بنظيره سهل حفظه وأمكن طلبه وقرب متناوله ووضح خطأ من خالف الحق به ولم يتعن المختصمون في البحث عن مكانه عند تنازعهم فيه ورجونا بذلك جزيل الأجر من الله عز وجل فإن المنفعة بجمع هذه المسائل جليلة جدا. ووجدنا الإجماع يقتسم طرفي الأقوال في الأغلب والأكثر من المسائل وبين هذين الطرفين وسائط فيها كثر التنازع وفي بحرها سبح المخالفون فأحد الطرفين هو ما أتفق جميع العلماء على وجوبه أو على تحريمه أو على أنه مباح لا حرام ولا واجب فسمينا هذا القسم الإجماع اللازم. والطرف الثاني هو ما اتفق جميع العلماء على أن من فعله أو اجتنبه فقد أدى ما عليه من فعل أو اجتناب أو لم يأثم فسمينا هذا القسم الإجماع الجازي عبارة اشتققناها لكل صنف من صفته الخاصة به ليقرب بها التفاهم بين المعلم والمتعلم والمناظرين على سبيل طلب الحقيقة إن شاء الله وما توفيقنا إلا بالله. وبين هذين الطرفين أشياء قال بعض العلماء هي حرام وقال آخرون منهم ليست حراما لكنها حلال وقال قوم منهم هي واجبة وقال آخرون منهم ليست بواجبة لكنها مباحة وكرهها بعضهم واستحبها بعضهم فهذه مسائل من الأحكام والعبادات لا سبيل إلى وجود مسمى الإجماع لا في جوامعها ولا في أفرادها. ونحن ممثلون منها مثالا وذلك مثل زكاة الفطر فإن قوما قالوا: هي فرض، وقوم قالوا: ليست فرضا، وقال قوم: هي منسوخة ومثل زكاة العروض المتخذة للتجارة فإن قوما قالوا الزكاة فيها واجبة وقال آخرون لا زكاة فيها ثم اختلف وجوب الزكاة فيها أيضا اختلافا لا سبيل إلى الجمع بينهم فيه فقال بعضهم يخرج من أثمانها وقال آخرون يخرج من أعيانها ومثل هذا كثير فما كان من هذا النوع فليس هذا الكتاب مكان ذكره وفي مواضع أخر إن أعاننا الله بقوة من قبله وتأييد وأمدنا بعمر وفراغ فستجمع كل صنف منها في مكان هو أملك به إن شاء الله وما توفيقنا إلا بالله. وهاهنا نحو من أنحاء الإجماع ليس هذا المكان مكان ذكره وهو أن يختلف العلماء في مسألة ما فيبيحها قوم ويحظرها آخرون أو يوجبها قوم ولا يوجبها آخرون ولا بد أن يكون الحق في قول أحدهم وسائرهم مبطلون ببرهان سمعي أو برهان عقلي شرطي إذا تقصيت أقسام المقالة على استيعاب وثقة وصحة فيكون حينئذ إجماع المحققين في تلك المسألة إجماعا صحيحا مرجوعا إليه مستصحبا فيما اختلف فيه منها ما لم يمنع من شيء من ذلك نص وذلك كإجماع القائلين بالمساقاة والمزارعة على إباحة شيء من فروعها فيوقف عنده. فهذه وجوه الإجماع التي لا إجماع سواها ولا تقوم حجة من الإجماع في غيرها البتة وقد أدخل قوم في الإجماع ما ليس فيه وقوم عدوا قول الأكثر إجماعا وقوم عدوا ما لا يعرفون فيه خلافا إجماعا وإن لم يقطعوا على أنه لا خلاف فيه وقوم عدوا قول الصاحب المشهور المنتشر إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفا. وإن وجد الخلاف من التابعين فمن بعدهم فعدوه إجماعا وقوم عدوا قول الصاحب الذي لا يعرفون له مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم وإن لم يشتهر ولا انتشر إجماعا. وقوم عدوا قول أهل المدينة إجماعا وقوم عدوا قول أهل الكوفة إجماعا وقوم عدوا اتفاق العصر الثاني على أحد قولين أو أكثر كانت للعصر الذي قبله إجماعا. وكل هذه آراء فاسدة ولنقضها مكان آخر ويكفي من فسادها أنهم نجدهم يتركون في كثير من مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع وإنما نحوا إلى تسمية ما ذكرنا إجماعا عنادا منهم وشغبا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى ترك اختياراتهم الفاسدة. وأيضا فإنهم لا يكفرون من خالفهم في هذه المعاني ومن شرط الإجماع الصحيح أن يكفر من خالفه بلا اختلاف بين أحد من المسلمين في ذلك فلو كان ما ذكروه إجماعا لكفر مخالفوهم بل لكفروا هم لأنهم يخالفونها كثيرا ولبيان كل هذا مكان آخر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقوم قالوا الإجماع هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط. وقوم قالوا إجماع كل عصر إجماع صحيح إذا لم يتقدم قبله في تلك المسألة خلاف وهذا هو الصحيح لإجماع الأمة عند التفصيل عليه واحتجاجهم به وترك ما أصلوه له. ولا خلاف بين أحد في أن انتظار جميع القرون التي لم تخلق بعد لتعرف أقوالهم باطل لا معنى له وإنما اختلفوا على القولين اللذين قدمنا. وقوم أخرجوا من الإجماع ما هو إجماع صحيح فقالوا لو اجتمع أهل العصر كلهم على قول ما ثم بدا لأحد منهم فيه فله ذلك وله براهين واضحة لها مكان آخر إن شاء الله بل إذا صح الإجماع فقد بطل الخلاف ولا يبطل ذلك الإجماع أبدا. وقوم قالوا من أصحابنا الإجماع لا يكون إلا من توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وقوم قالوا الإجماع قد يكون من قياس وهذا باطل. وقوم قالوا الإجماع يكون من وجهين إما من توقيف منقول إلينا معلوم وإما من دليل من توقيف منقول إلينا معلوم ولكن إذا صح الإجماع فليس علينا طلب الدليل إذ الحجة بالإجماع قد لزمت وهذا هو الصحيح. وقوم من أصحابنا قالوا إذا اتفقت طائفة على مسألتين فصح قولهم في إحداهما بدليل وجب أن الأخرى صحيحة وهذا غير ظاهر وليس له في الإجماع طريق لما بينته في غير هذا المكان. وصفة الإجماع هو ما تيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء الإسلام ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك مثل أن المسلمين خرجوا من الحجاز واليمن ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام وأن بني أمية ملكوا دهرا طويلا ثم ملك بنو العباس وأنه كانت وقعة صفين والحرة وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة. وإنما نعني بقولنا العلماء من حفظ عنه الفتيا من الصحابة والتابعين وتابعيهم وعلماء الأمصار وأئمة أهل الحديث ومن تبعهم رضي الله عنهم أجمعين. ولسنا نعني أبا الهذيل ولا ابن الأصم ولا بشر بن المعتمر ولا إبراهيم بن سيار ولا جعفر بن حرب ولا جعفر بن مبشر ولا ثمامة ولا أبا غفار ولا الرقاشي ولا الأزارقة والصفرية ولا جهال الإباضية ولا أهل الرفض فإن هؤلاء لم يتعنوا من تثقيف الآثار ومعرفة صحيحها من سقيمها ولا البحث عن أحكام القرآن لتمييز حق الفتيا من باطلها بطرف محمود بل اشتغلوا عن ذلك بالجدال في أصول الاعتقادات ولكل قوم علمهم. ونحن وإن كنا لا نكفر كثيرا ممن ذكرنا ولا نفسق كثيرا منهم بل نتولى جميعهم حاشا من أجمعت الأمة على تكفيره منهم فإنا تركناهم لأحد وجهين إما لجهلهم بحدود الفتيا والحديث والآثار وإما لفسق ثبت عن بعضهم في أفعاله ومجونه فقط كما نفعل نحن بمن كان قبلنا من أهل نحلتنا جاهلا أو ماجنا ولا فرق وبالله التوفيق. ولسنا نخرج من جملة العلماء من ثبتت عدالته وبحثه عن حدود الفتيا وإن كان مخالفا لنحلتنا بل نعتد بخلافه كسائر العلماء ولا فرق كعمرو بن عبيد ومحمد بن إسحاق وقتادة بن دعامة السدوسي وشبابة بن سوار والحسن بن حيي وجابر بن زيد ونظرائهم وإن كان فيهم القدري والشيعي والإباضي والمرجئ لأنهم كانوا أهل علم وفضل وخير واجتهاد رحمهم الله وغلط هؤلاء بما خالفونا فيه كغلط سائر العلماء في التحريم والتحليل ولا فرق. وإنما ندخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا مخالف فيه البتة الذي يعلم كما يعلم أن الصبح في الأمن والخوف ركعتان وأن شهر رمضان هو الذي بين شوال وشعبان وأن الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه وحي من الله وأن في خمس من الإبل شاة ونحو ذلك وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوه نقله إذا تتبعها المرء من نفسه في كل ما يمر به من أحوال دنياه وأهل زمانه وجده ثابتا مستقرا في نفسه وما توفيقنا إلا بالله.
|